في عالمنا امتخم بالإبهار، لم يعد الحضور إلى فعالية أمرًا يُثير الدهشة بحد ذاته، بل أصبح الجمهور يميز بين فعالية تؤدي واجبًا، وأخرى تخاطب أعماقه….
في عالمنا امتخم بالإبهار، لم يعد الحضور إلى فعالية أمرًا يُثير الدهشة بحد ذاته، بل أصبح الجمهور يميز بين فعالية تؤدي واجبًا، وأخرى تخاطب أعماقه. والفرق، غالبًا، لا يكمن في الميزانية ولا في عدد الحضور، بل في أهمية التفاصيل في الفعاليات والتي تلامس الحواس، وتترك أثرًا لا يُنسى.
قد تمر لمسة ضوء على زاوية من المسرح دون أن ينتبه لها أحد، أو تختار زهرة بعينها لطاولة الشخصيات الهامة، أو تقرأ اسم المدينة المنقوش على قطعة ديكور في الزاوية الخلفية للمسرح تفاصيل، لا تُرى إلا إذا غابت. لكن حين تكون موجودة، فإنها تبني طبقة من الإحساس لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، بل تُستشعر بالصمت، وتُقدّر بالحضور الصافي.
التفاصيل الدقيقة ليست مجرد كماليات. إنها تعبير عن احترامنا للفكرة، وللمتلقي، وللرسالة التي نحملها. إنها الخط الفاصل بين التنفيذ العادي، والإبداع الذي يُرفع عنه الغبار ليبقى.
في اليوم الدولي لموسيقى الجاز، أحد أكثر الفعاليات العالمية ثراءً من حيث الرمزية والرسالة، لم تكن الجلسات الكبرى هي فقط ما أسر انتباه الجمهور، بل كانت تلك الورش الصغيرة التفاعلية، مثل تلك التي أقيمت في يانغون – ميانمار، حيث جلس موسيقي الجاز إلى جانب موسيقيين محليين، يعزفون، يتبادلون الأدوار، يتعلمون من بعضهم.
اللحظة لم تكن عرضًا. كانت تفاعلًا حيًا. التفاصيل هنا لم تكن تقنية فقط، بل إنسانية – كيف تختار موسيقيًا قادرًا على الاستماع لا العزف فقط؟ كيف تخلق مساحة يشعر فيها كل مشارك بقيمته؟ كيف تُحوِّل تجربة تعليمية إلى لحظة تمكين ثقافي؟
هذا النوع من التفاصيل يرفع الفعالية من خانة “تنظيم محترف” إلى خانة “بناء جسور ثقافية”. وما بينهما، فرق جوهري في المعنى والأثر.
في عام 2025، وقفت أبوظبي على المسرح العالمي عبر حفل “كل النجوم”، بمشاركة فنانين من أكثر من 20 دولة. وبين كل الأسماء اللامعة، اختار المنظمون أن يُسلطوا الضوء على الفنان الإماراتي أرقم العبري، عازف التشيللو، في عرض يحمل ملامح الموسيقى المحلية.
قد يبدو هذا تفصيلًا بسيطًا وسط الأسماء العالمية، لكنه كان بمثابة نقطة تمركز الهوية داخل فعالية كبرى. اختيار آلة التشيللو، وإعادة تقديم نغمات تقليدية بآلية أداء عالمية، أعطى للحفل بُعدًا محليًا فريدًا.
التفاصيل هنا كانت استراتيجية: في كل فعالية عالمية، يبحث الجمهور عن اللحظة التي تشرح “من نحن”. وأفضل من يفعلها، هو من يفهم أن التفاصيل لا تُوضع لتُعجب، بل لتُعبِّر.
من بين أكثر الفعاليات العالمية التي اتكأت على التفاصيل العميقة، كانت فعالية شوشا عاصمة الثقافة الإسلامية لعام 2024. في مدينة مزّقتها الحروب، اختار المنظمون أن تكون كل زاوية من زوايا الفعالية نُقطة رمزية للصمود الثقافي.
تنظيم منتدى ثقافي عن حماية التراث بعد النزاعات لم يكن مجرد حدث نظري، بل تخلله عرض نماذج ملموسة لترميم المدينة. أما التفاصيل، فكانت تُروى من خلال إعادة افتتاح المساجد التاريخية بزخارفها الأصلية، ترميم النقوش، وإبراز الألحان التقليدية التي أوشكت على النسيان.
في لحظة استماع لكلمة الدكتور سالم المالك، لم تكن كلمات فقط، بل كانت مدعومة بسياق بصري وروحي يعكس كيف أن التفاصيل – حتى تلك التي لا تُرى بسهولة – تشكل هوية كاملة لمدينة، وربما لأمة.
في اليوم العالمي للمتاحف في الشارقة، لم يكن الاكتفاء بعرض القطع الأثرية هو الهدف، بل صُممت الفعالية بطريقة تُشرك الزوار أنفسهم في صناعة المعنى.
تفاصيل مثل استخدام الواقع الافتراضي لإحياء القطع القديمة، والسماح للزوار بلمس النسخ الرقمية، أوجدت علاقة جديدة بين الجمهور والتاريخ. حتى في فعالية “رسم الهوية الثقافية”، أتيحت الفرصة لكل زائر أن يضع لمسته على لوحة جماعية، مما جعل التجربة لا تُنسى لأنها صارت جزءًا من ذاكرته هو، لا مجرد عرض يمر أمامه.
هنا، لا تصبح التفاصيل مجرد أدوات تقنية، بل تتحول إلى آليات للتعبير الذاتي، وتذكير أن أفضل الفعاليات هي تلك التي لا تكتفي بإبهار الجمهور، بل تدمجه في صناعتها.
عند الحديث عن التفاصيل، لا بد أن نقف على أرضية صلبة من القيم المهنية.
في ماندالا، لا تُعتبر التفاصيل ترفًا، بل هي ثلاثية مقدسة تمثل جودة الفكرة، جودة التنفيذ، وجودة الإخراج.
الجمهور الذي نخاطبه اليوم ذكي، مثقف، ويعرف الفارق بين الاستعراض والاحتراف. هو جمهور يُفتن بالمظهر لكنه يُقدّر الجوهر. لا يرضى إلا بتجربة مكتملة من كل زاوية، ويتوقع أن يرى خلف كل لمسة… فكرًا، ومهارة، ورسالة.
ولهذا، تُبنى الفعاليات الكبرى من الأسفل إلى الأعلى، من التفاصيل الصغيرة التي تُزرع مثل البذور، لتُثمر في وجدان الزائر لحظة لا ينساها.
في ماندالا، لا نُطارد الكمال لأنه هدف صعب، بل نزرع الإتقان في كل خطوة، وندع التفاصيل تتحدث نيابةً عنا.
في المرة القادمة التي تحضر فيها فعالية، لا تنظر فقط إلى العناوين، ولا إلى عدد الحضور.
انظر إلى الموسيقى التي تبدأ قبل دخولك القاعة، إلى الخط العربي في الدعوة المطبوعة، إلى اللون المختار للإضاءة الخلفية، إلى ابتسامة المضيف، إلى طريقة تقديم القهوة، إلى القطعة الفنية الصغيرة خلف المسرح.
كل تلك اللمسات تقول شيئًا.
وإذا صمتت العناوين، فإن التفاصيل دائمًا تتكلم.
قد يهمك أيضًا:
شاركنا بريدك الإلكتروني وادخل معنا في مساحة مليانة وعي، نمو، وإلهام.
جمبع الحقوق محفوظة © ماندالا 2025
WhatsApp us